فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَآسِ
(1)
بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ
(2)
، وَلاَ يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ. فَإنَّ اللهَ
تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ
أَعْمَالِكُمْ وَالْكَبِيرَةِ، وَالظَّاهِرَةِ وَالْمَسْتُورَةِ، فَإِنْ
يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ، وَإِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ.
وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ، أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ
الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ، فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي
دُنْيَاهُمْ، وَلَمْ يُشَارِكُو أَهْلُ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ;
سَكَنُوا الدُّنْيَا بَأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ، وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا
أُكِلَتْ، فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ
(3)
، وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ،
ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ، وَالْمَتْجَرِ
الرَّابِحِ، أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، وَت
َيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ، لاَ تُرَدُّ
لَهُمْ دَعْوَةٌ، وَلاَ يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّة. فَاحْذَرُوا
عِبَادَ اللهِ الْمَوْتَ وَقُرْبَهُ، وَأَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ،
فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيم، وَخَطْبٍ جَلِيلٍ، بِخَيْرٍ لاَ
يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً، أَوْ شَرٍّ لاَ يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ
أَبَداً، فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا! وَمَنْ
أَقْرَبُ إِلى النَّارِ مِنْ عَامِلِهَا! وَأَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ،
إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخْذَكُمْ، وَإِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَككُمْ،
وَهُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ، الْمَوْتُ مَعْقُودٌ
بِنَوَاصِيكُمْ
(4)
، وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ. فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا
بَعِيدٌ، وَحَرُّهَا شَدِيدٌ، وَعَذَابُهَا جَدِيدٌ، دَارٌ لَيْسَ فِيها
رَحْمَةٌ، وَلاَ تُسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ، وَلاَ تُفَرَّجُ فِيهَا
كُرْبَهٌ. وَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللهِ،
وَأَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ، فَاجْمَعُوا بيْنَهُمَا، فَإِنَّ
الْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَ
نِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَإِنَّ أَحْسَنَ
النَّاسِ ظَنّاً بِاللهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً لله. وَاعْلَمْ ـ يَا
مُحَمَّدُ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ـ أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ
أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْرَ، فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ
عَلَى نَفْسِكَ
(5)
، وَأَنْ تُنَافِحَ
(6)
عَنْ دِينِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلاَّ سَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ،
وَلاَ تُسْخِطِ اللهَ بِرِضَى أَحَد مِنْ خَلْقِهِ، فَإِنَّ فِي اللهِ
خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ
(7)
، وَلَيْسَ مِنَ اللهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ. صَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا
الْمُوَقَّتِ لَهَا، وَلاَ تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغ، وَلاَ
تُؤْخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لِإِشْتِغَالٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ
مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلاَتِكَ. ومنه: فَإِنَّهُ لاَ سَوَاءَ، إِمَامُ
الْهُدَى وَإِمَامُ الرَّدَى، وَوَلِيُّ النَّبِىِّ وَعَدُوُّ النَّبِيِّ،
وَلَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: (إِنِّي
لاَ أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَلاَ مُشْرِكاً، أَمَّا الْمُؤمِنُ
فَيَمْنَعُهُ اللهُ بِإِيمَانِهِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ
(8)
اللهُ بِشِرْكِهِ. لكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مَنَافِقِ الْجَنَانِ
(9)
، عَالِمِ اللِّسَانِ
(10)
، يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ،وَيَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ).
1. آسِ: أمر من آسى ـ بمد الهمزة ـ أي سَوّى، يريد: اجعلْ بعضهم أُسوة بعض أي مستوين.
2. حَيْفك لهم: أي ظلمك لأجلهم.
3. المترفون: المنعمون.
4. النَوَاصي ـ جمع ناصية ـ : مُقَدّم شعر الرأس.
5. تخالف على نفسك: أي تخالف شهوة نفسك.
6. المنافحة: المدافعة والمجالدة.
7. إنّ في الله خَلَفاً من غيره: أي عِوَضاً.
8. يَقْمَعه: يقهره.
9. منافق الجَنان: من أسرّ النفاق في قلبه.
10. عالم اللسان: من يعرف أحكام الشريعة ويسهل عليه بيانها فيقول حقاً يعرفه المؤمنون ويفعل منكراً ينكرونه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق