نهج البلاغة

وهو مجموعة خطب مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وأوامره وكتبه ورسائله وحكمه ومواعظه تأليف: الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام

الخميس، 8 مارس 2012

[ 10 ] ومن كتاب له عليه السلام إليه أيضاً

وَكَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ جَلاَبِيبُ (1) مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ دُنْيَا قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِينَتِهَا (2) ، وَخَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا، دَعَتْكَ فَأَجَبْتَهَا، وَقَادَتْكَ فَاتَّبَعْتَهَا، وَأَمَرَتْكَ فَأَطَعْتَهَا، وَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَقِفَكَ وَاقِفٌ عَلَى مَا لاَ يُنْجيِكَ مِنْهُ مِجَنٌّ (3) ، فَاقْعَسْ (4) عَنْ هذَا الْأَمْرِ، وَخُذْ أُهْبَةَ (5) الْحِسَابِ، وَشَمِّرْ لِمَا قَدْ نَزَلَ بِكَ، وَلاَ تُمَكِّنِ الْغُوَاةَ (6) مِنْ سَمْعِكَ، وَإِلاَّ تَفْعَلْ أُعْلِمْكَ مَا أَغْفَلْتَ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنكَ مُتْرَفٌ (7) قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ، وَبَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ، وَجَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوحِ وَالدَّمِ. وَمَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ الرَّعِيَّةِ (8) ، وَوُلاَةَ أَمْرِ الْأُمَّةِ؟ بِغَيْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ، وَلاَ شَرَفٍ بَاسِقٍ (9) ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ لُزومِ سَوَابِقِ الشَّقَاءِ، وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمادِياً فِي غِرَّةِ (10) الْأُمْنِيَّةِ (11) ، مُخْتَلِفَ الْعَلاَنِيَةِ والسَّرِيرَةِ. وَقَدْ دَعَوْتَ إِلَى الْحَر
ْبِ، فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً وَاخْرُجْ إِلَيَّ، وَأَعْفِ الْفَرِيقَينِ مِنَ الْقِتَالِ، لِتَعْلَمَ أيُّنَا الْمَرِينُ (12) عَلَى قَلْبِهِ، وَالْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ! فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَخَالِكَ وأَخِيكَ شَدْخاً (13) يَوْمَ بَدْرٍ،ذلكَ السَّيْفُ مَعِي، وَبِذلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي، مَا اسْتَبْدَلْتُ دِيناً، وَلاَ اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً، وَإنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ (14) الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ، وَدَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ. وَزَعَمْتَ أَنَّكَ جِئْتَ ثَائراً (15) بِدَمِ عُثْمانَ، وَلَقَدْ عَلِمْتَ حَيْثُ وَقَعَ دَمُ عُثْمانَ فَاطْلُبْهُ مِنْ هُنَاكَ إِنْ كُنتَ طَالباً، فَكَأَنِّي قدْ رَأَيْتُكَ تَضِجُّ مِنَ الْحَرْبِ إِذَا عَضَّتْكَ ضَجِيجَ الْجِمَالِ بِالْأَثْقَالِ، وَكَأَنِّي بِجَمَاعَتِكَ تَدْعُونِي جَزَعاً مِنَ الضَّرْبِ الْمُتَتَابِعِ، وَالْقَضَاءِ الْوَاقِعِ، وَمَصَارِعَ بَعْدَ مَصَارِعَ، إِلَى كِتَابِ اللهِ، وَهِيَ كَافِرةٌ جَاحِدَهٌ، أَوْ مُبَايِعَةٌ حَائِدَةٌ (16) .

1. الجلابيب ـ جمع جِلْباب ـ : وهو الثوب فوق جميع الثياب كالمِلْحَفة.
2. تَبَهّجَت: تحسنت.
3. المِجَنّ: التُرْس، أي يوشك أن يطلعك الله على مهلكة لك لاتتقي منها بترس، ورويت: "مُنْجٍ " بدل مجنّ.
4. قَعَسَ: تأخر.
5. الاُهبة ـ بضم الهمزة ـ : العُدّة.
6. الغُواة ـ جمع غاو ـ : قرين السوء الذي يزيّن لك الباطل ويغريك بالفساد.
7. المُتْرَف: من أطْغَتْه النعمة.
8. سَاسة: جمع سائس.
9. الباسِق: العالي الرفيع.
10. الغِرّة ـ بالكسر ـ : الغُرور.
11. الاُمْنِيَة ـ بضم الهمزة ـ : ما يتمناه الإنسان ويؤمل إدراكه.
12. المَرِين ـ بفتح فكسر ـ : اسم مفعول من رانَ ذنبهُ على قلبه: غلب عليه فغطى بصيرته.
13. شدخاً: أي كسراً في الرطب.
14. المِنْهاج: هو ـ هنا ـ طريق الدين الحق.
15. ثأر به: طلب بدمه.
16. حائدة: من حاد عن الشيء إذا مال عنه وعدل عنه إلى سواه.

[ 9 ] ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية

فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا، وَاجْتِيَاحَ أَصْلِنَا (1) ، وَهَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ (2) ، وَفَعَلُوا بِنَا الْأَفَاعِيلَ (3) ، وَمَنَعُونَا الْعَذْبَ (4) ، وَأَحْلَسُونَا (5) الْخَوْفَ، وَاضْطَرُّونَا (6) إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ (7) ، وَأَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ، فَعَزَمَ اللهُ لَنَا (8) عَلَى الذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ (9) ، وَالرَّمْيِ مِنْ وَرَاءِ حُرْمَتِهِ (10) . مُؤْمِنُنَا يَبْغِي بِذلِكَ الْأَجْرَ، وَكَافِرُنَا يُحَامِي عَنِ الْأَصْلِ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيشٍ خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْفٍ يَمْنَعُهُ، أَوْ عَشِيرَةٍ تَقُومُ دُونَهُ، فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْنٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ- إذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ (11) ، وَأَحْجَمَ النَّاسُ، قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصَحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ (12) وَالْأَسِنَّةِ، فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقُتِلَ جَعْفَرُ يَوْمَ مُؤْتَةَ (13) ، وَأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ، وَلكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ،مَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ. فَيَاعَجَباً لِلدَّهْرِ! إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي (14) ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي (15) الَّتِي لاَ يُدْلِي أحَدٌ (16) بِمِثْلِهَا، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لاَ أَعْرِفُهُ، وَلاَ أَظُنُّ اللهَ يَعْرِفُهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَأَمَّا مَا سَأَلْتَ مِنْ دَفْعِ قَتَلَةِ عُثْمانَ إِلَيْكَ، فَإِنِّي نَظَرْتُ فِي هذَا الْأَمْرِ، فَلَمْ أَرَهُ يَسَعُنِي دَفْعُهُمْ إِلَيْكَ وَلاَ إِلَى غَيْرِكَ، وَلَعَمْرِي لَئِنْ لَمْ تَنْزِعْ (17) عَنْ غَيِّكَ وَشِقَاقِكَ (18) لَتَعْرِفَنَّهُمْ عَنْ قَلِيلٍ يَطْلُبُونَكَ، لاَ يُكَلِّفُونَكَ طَلَبَهُمْ فِي بَرٍّ وَلاَ بَحْرٍ، وَلاَ جَبَلٍ وَلاَ سَهْلٍ، إِلاَّ أَنَّهُ طَلَبٌ يَسُوءُكَ وِجْدَانُهُ، وَزَوْرٌ (19) لاَ يَسُرُّكَ لُقْيَانُهُ، وَالسَّلاَمُ لِأَهْلِهِ.

1. الاجتياح: الاستئصال والإهلاك.
2. هموا بنا الهموم: قصدوا إنزالها بنا.
3. الأفاعيل ـ جمع أُفْعولة ـ : الفَعْلة الرديئة.
4. العذب: هنيء العيش.
5. أحلسونا: ألزمونا.
6. اضطرونا: ألجأونا.
7. الجبل الوَعْر: الصعب الذي لا يرقى إليه.
8. عزم الله لنا: أراد لنا أن نذبّ عن حوزته.
9. المراد من الحَوْزة هنا: الشريعة الحقة.
10. رمى من وراء الحُرْمة: جعل نفسه وقاية لها يدافع السوء عنها، فهو من ورائها أو هي من ورائه.
11. احمرار البأس: اشتداد القتال.
12. حَر الأسنة ـ بفتح الحاء ـ : شدة وقعها.
13. مؤتة ـ بضم الميم ـ : بلد في حدود الشام.
14. بقدم مثل قدمى جَرَتْ وثَبَتَتْ في الدفاع عن الدين.
15. السابقة: فضله السابق في الجهاد.
16. أدلى إليه برَحِمِهِ: توسَّلَ، و بمال دفعه اليه ; و كلا المعنيين صحيح.
17. تنْزِع ـ كتضرب ـ أي: تنتهي.
18. الشقاق: الخلاف.
19. الزَوْر ـ بفتح فسكون ـ : الزائرون.

[ 8 ] ومن كتاب له عليه السلام إلى جرير بن عبدالله البجلي لما أرسله إلى معاوية

أَمَّا بَعْدُ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَاحْمِلْ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْفَصْلِ (1) ، وَخُذْهُ بَالْأَمْرِ الْجَزْمِ، ثُمَّ خَيِّرْهُ بَيْنَ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ (2) ، أَوْ سِلْمٍ مُخْزِيَةٍ (3) ، فَإِنِ اخْتَارَ الْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَيْهِ (4) ، وَإِنِ اخْتَارَ السِّلْمَ فَخُذْ بَيْعَتَهُ، وَالسَّلاَمُ.

1. الفصل: الحكم القطعي.
2. حرب مُجْلِية: أي مخرجة له من وطنه.
3. السلم المخزية: الصلح الدال على العجز.
4. فانْبِذْ إليه: أي اطرح إليه عهد الأمان وأعلنه بالحرب، والفعل من باب ضرب.

[ 7 ] ومن كتاب له عليه السلام إليه أيضاً

أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أَتَتْني مِنْكَ مَوْعِظَةٌ مُوَصَّلَةٌ (1) ، وَرِسَالَةٌ مُحَبَّرَةٌ (2) ، نَمَّقْتَهَا (3) بِضَلاَلِكَ، وَأَمْضَيْتَهَا بِسُوءِ رَأْيِكَ، وَكِتَابُ امْرِىءٍ لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ يَهْدِيهِ، وَلاَ قَائِدٌ يُرْشِدُهُ، قَدْ دَعَاهُ الْهَوَى فَأَجَابَهُ، وَقَادَهُ الضَّلاَلُ فَاتَّبَعَهُ، فَهَجَرَ (4) لاَغِطاً (5) ، وَضَلَّ خَابِطاً. و منه : لِأَنَّهَا بَيْعَهٌ وَاحِدَةٌ لاَ يُثَنَّى فِيهَا النَّظَرُ (6) ، وَلاَ يُسْتَأْنَفُ فِيهَا الْخِيَارُ. الْخَارِجُ مِنْهَا طَاعِنٌ، وَالْمُرَوِّي (7) فِيهَا مُدَاهِنٌ (8) .

1. مُوَصّلة ـ بصيغة المفعول ـ : ملفّقة من كلام مختلف وصل بعضه ببعض على التباين، كالثوب المرقع.
2. مُحَبّرَة: أي مزيّنه.
3. نَمّقتها: حسنت كتابتها, و أمضيْتها: أنفذتها وبعثتها.
4. هَجَرَ: هَذَى في كلامه ولغا.
5. اللغط: الجَلَبة بلا معنى.
6. لا يُثني: لا ينظر فيها ثانياً بعد النظر الأول.
7. المُرَوِّي: هو المتفكر هل يقبل الشيء أوينبذه.
8. المُداهن: المنافق.

[ 6 ] ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية

إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ، وَإنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ لِلَّهِ رِضىً، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أَوْبِدْعَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَاخَرَجَ مِنْهُ، فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلاَّهُ اللهُ مَا تَوَلَّى. وَلَعَمْرِي، يَا مُعَاوِيَةُ، لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّي أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ، وَلَتَعْلَمَنَّ أَنِّي كُنْتُ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ تَتَجَنَّى (1) ; فَتَجَنَّ مَا بَدَا لَكَ! وَالسَّلاَمُ.

1. تجنّى ـ كتولّى ـ : ادعى الجناية على من لم يفعلها.

[ 5 ] ومن كتاب له عليه السلام إلى أشعث بن قيس عامل أذربيجان

وَإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ (1) ، وَلكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانةٌ، وَأَنْتَ مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَكَ. لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفتَاتَ (2) فِي رَعِيَّةٍ، وَلاَ تُخَاطِرَ إِلاَّ بِوَثِيقَةٍ، وَفي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللهِ عَزَّوَجَلَّ، وَأَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ (3) حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ، وَلَعَلِّي أَلاَّ أَكُونَ شَرَّ وُلاَتِكَ (4) لَكَ، وَالسَّلاَمُ.

1. الطُعمة ـ بضم الطاء ـ : المأكلة.
2. تَفْتَات: أي تستبد، وهو افتعال من الفَوْت كأنه يفوت آمره فيسبقه إلى الفعل قبل أن يأمره.
3. خُزّان ـ بضم فتشديد ـ : جمع خازن، والمراد الحافظ.
4. الوُلاة ـ جمع وال ـ : من ولي عليه.

[ 4 ] ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض أُمراء جيشه

فَإِنْ عَادُوا إِلَى ظِلِّ الطَّاعَةِ فَذَاكَ الَّذِي نُحِبُّ، وَإِنْ تَوَافَتِ (1) الْأُمُورُ بِالْقَوْمِ إِلَى الشِّقَاقِ وَالْعِصْيَانِ فَانْهَدْ بِمَنْ أَطاعَكَ إِلَى مَنْ عَصَاكَ، وَاسْتَغْنِ بِمَنِ انْقَادَ مَعَكَ عَمَّنْ تَقَاعَسَ عَنْكَ، فَإِنَّ الْمُتَكَارِهَ (2) مَغِيبُهُ خَيْرٌ مِنْ مَشْهَدِهِ، وَقُعُودُهُ أَغْنَى مِنْ نُهُوضِهِ.

1. توافى القوم: وافى بعضهم بعضاً حتى تمّ اجتماعهم.
2. المُتكَارِهُ: المتثاقل بكراهة الحرب، وجوده بالجيش يضر أكثر مما ينفع.

[ 3 ] ومن كتاب له عليه السلام لشريح بن الحارث قاضيه

روي أنّ شريح بن الحارث قاضي أميرالمؤمنين عليه السلام اشترى على عهده داراً بثمانين ديناراً، فبلغه ذلك، فاستدعى شريحاً، وقال له:
بَلَغَنِي أَنَّكَ ابْتَعْتَ دَاراً بِثَمانِينَ دِينَاراً، وَكَتَبْتَ لَهَا كِتَاباً، وَأَشْهَدْتَ فِيهِ شُهُوداً.
فقال له شريح: قد كان ذلك يا أميرالمؤمنين. قال: فنظر إليه نظر مغضب ثمّ قال له:
يَا شُرَيْحُ، أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لاَ يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ، وَلاَ يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ، حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً (1) ، وَيُسْلِمَكَ إلَى قَبْرِكَ خَالِصاً. فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لاَ تَكُونُ ابْتَعْتَ هذِهِ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ، أَوْ نَقَدْتَ الَّثمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلاَلِكَ! فَإِذَا أَنْتَ قدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا وَدَارَ الْآخِرَةِ! أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اشْتَرَيْتَ لَكَتَبْتُ لَكَ كِتاباً عَلَى هذِهِ النُّسْخَةِ، فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هذِهِ الدَّارِ بِدِرْهَمٍ فَمَا فَوْقُ. والنسخة هذه: هذَا مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ، مِنْ مَيِّتٍ قَدْ أُزْعِجَ لِلرحِيلِ، اشْتَرَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَ ارِ الْغُرُورِ، مِنْ جَانِبِ الْفَانِينَ، وَخِطَّةِ (2) الْهَالِكِينَ، وَتَجْمَعُ هذِهِ الدَّارَ حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ: الْحَدُّ الْأَوَّلُ يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الْآفَاتِ، وَالْحَدُّ الثَّانِي يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الْمُصِيباتِ، وَالْحَدُّ الثَّالِثُ يَنْتَهِي إلَى الْهَوَى الْمُرْدِي، وَالْحَدُّ الرَّابِعُ يَنْتَهِي إِلَى الشَّيْطَانِ الْمُغْوِي، وَفِيهِ يُشْرَعُ (3) بَابُ هذِهِ الدَّارِ. اشْتَرَى هذَا الْمُغْتَرُّ بِالْأَمَلِ، مِنْ هذَا الْمُزْعَجِ بِالْأَجَلِ، هذِهِ الدَّارَ بِالْخُرُوجِ مِنْ عِزِّ الْقَنَاعَةِ، وَالدُّخُولِ فِي ذُلِّ الطَّلَبِ وَالضَّرَاعَةِ (4) ، فَمَا أَدْرَكَ هذَا الْمُشْتَرِي فِيَما اشْتَرَى مِنْهُ مِنْ دَرَكٍ، فَعَلَى مُبَلْبِلِ أَجْسَامِ (5) الْمُلُوكِ، وسَالِبِ نُفُوسِ الْجَبَابِرَةِ، وَمُزِيلِ مُلْكِ الْفَراعِنَةِ، مِثْلِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَتُبَّعٍ وَحِمْيَرَ، وَمَنْ جَمَعَ الْمَالَ عَلَى الْمَالِ فَأَكْثَرَ، وَمَنْ بَنَى وَشَيَّدَ (6) ، وَزَخْرَفَ وَنَجَّدَ (7) ، وَادَّخَرَ واعْتَقَدَ (8) ، وَنَظَرَ بِزَعْمِهِ لِلْوَلَدِ، إِشْخَاصُهُمْ (9) جَمِيعاً إِلَى مَوْقِفِ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، وَمَوْضِعِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ: إذَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ) شَهِدَ عَلَى ذلِكَ الْعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى، وَسَلِمَ مِنْ عَلاَئِقِ الدُّنْيَا.

1. شاخصاً: ذاهباً مبعداً.
2. خِطّة ـ بكسر الخاء ـ : الأرض التي يختطّها الإنسان ويعلم عليها بالخط ليعمرها.
3. يشرع: أي يفتح.
4. الضراعة: الذِلّة و الدَرَك – بالتحريك - : التَبِعة.
5. مُبَلْبِلُ الأجسام: مهيج داءاتها المهلكة لها.
6. شيّد: رفع البناء.
7. نجّد ـ بتشديد الجيم ـ : أي زين.
8. اعتقد المال: اقتناه.
9. إشخاصهم: إرسالهم وترحيلهم حتى يحضروا بأشخاصهم.

[ 2 ] ومن كتاب له عليه السلام إليهم، بعد فتح البصرة

وَجَزَاكُمُ اللهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ أَحْسَنَ مَا يَجْزِي الْعَامِلِينَ بِطَاعَتِهِ، وَالشَّاكِرِينَ لِنِعْمَتِهِ، فَقَدْ سَمِعْتُمْ وَأَطَعْتُمْ، وَدُعِيتُمْ فَأَجَبْتُمْ.

[ 1 ] من كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة، عند مسيره من المدينة إلى البصرة

مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيٍّ أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ إلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، جَبْهَةِ (1) الْأَنْصَارِ وَسَنَامِ (2) الْعَرَبِ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمانَ حَتَّى يَكُونَ سَمْعُهُ كَعِيَانِهِ (3) : إِنَّ النَّاسَ طَعَنُوا عَلَيْهِ، فَكُنْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أُكْثِرُ اسْتِعْتَابَه (4) ، وَأُقِلُّ عِتَابَهُ، وَكَانَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ أَهْوَنُ سَيْرِهِمَا فِيهِ الْوَجيِفُ (5) ، وَأَرْفَقُ حِدَائِهِمَا (6) الْعَنِيفُ، وَكَانَ مِنْ عَائِشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ غَضَبٍ، فَأُتِيحَ لَهُ قَوْمٌ فَقَتَلُوهُ، وَبَايَعَنِي النَّاسُ غَيْرَ مُسْتَكْرَهِينَ وَلاَ مُجْبَرِينَ، بَلْ طَائِعِينَ مُخَيَّرِينَ. وَاعْلَمُوا أَنَّ دَارَ الْهِجْرَةِ (7) قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَقَلَعُوا بِهَا (8) ، وَجَاشَتْ جَيْشَ (9) الْمِرْجَلِ (10) ، وَقَامَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى الْقُطْبِ، فَأَسْرِعُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ، وَبَادِرُوا جَهَادَ عَدُوِّكُمْ، إِنْ شَاءَ اللهُ عَزِّوَجَلَّ.

1. شبّههم بالجبْهَة من حيث الكرم.
2. شبّههم بالسَنام من حيث الرفعة.
3. عِيانه: رؤيته.
4. استعتابه: استرضاؤه.
5. الوَجِيف: ضرب من سير الخيل والإبل سريع.
6. الحِدَاء: زجل الإبل وسَوْقها.
7. دار الهجرة: المدينة.
8. قَلَعَ المكان بأهله: نَبَذَهم فلم يصلح لاستيطانهم.
9. جاشَتْ: غَلَتْ واضطربت. والجَيْش: الغليان.
10. المِرْجَلْ: القدر.

[ 30 ] ومن كلام له عليه السلام في معنى قتل عثمان وهو حكم له عثمان و عليه و علي الناس بما فعلوا و براءة له من دمه


لَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلاً، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِراً، غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَمَنْ خَذَلَهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي. وَأَنَا جَامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ، اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الْأَثَرَةَ (1) ، وَجَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الْجَزَعَ (2) ، وَللهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ في الْمُسْتَأْثِرِ وَالجَازعِ.

1. أساء الاَثَرَةَ: أساء الاستبداد، وكان عليه أن يخفف منه حتى لا يزعجكم.
2. أسأتم الجَزَعَ: أي لم تَرْفُقُوا في جزعكم، ولم تقفوا عند الحد الأولى بكم.

[ 29 ] ومن خطبة له عليه السلام بعد غارة الضحاك بن قيس صاحب معاوية على الحاجّ بعد قصة الحكمين وفيها يستنهض أصحابه لما حدث في الأطراف


أَيُّهَا النَّاسُ، الُْمجْتَمِعَةُ أبْدَانُهُمْ، الُمخْتَلِفَةُ أهْوَاؤُهُمْ (1) كَلامُكُم يُوهِي (2) الصُّمَّ الصِّلابَ (3) ، وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الْأَعْدَاءَ! تَقُولُونَ فِي الَمجَالِسِ: كَيْتَ وَكَيْتَ (4) ، فَإذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ: حِيدِي حَيَادِ! (5) مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ، وَلاَ اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ، أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ (6) ، و سَأَلْتُمُوني التَّطْوِيلَ (7) دِفَاعَ ذِي الدَّيْنِ المَطُولِ (8) ، لاَ يَمنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ! وَلاَ يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلاَ بِالْجِدِّ! أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ، وَمَعَ أَىِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ؟ الْمَغْرُورُ وَاللهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، وَمَنْ فَازَبِكُمْ فَازَ _ وَاللّهِ _ بِالسَّهْمِ الْأَخْيَبِ (9) ، وَمَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ (10) نَاصِلٍ (11) . أَصْبَحْتُ وَاللهِ لا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، وَلاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ، وَلاَ أُوعِدُ العَدُوَّ بِكُم. مَا بَالُكُم؟ مَا دَوَاؤُكُمْ؟ مَا طِبُّكُمْ؟ القَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ، أَقَوْلاً بَغَيْرِ عِلْمٍ! وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ! وَطَمَعاً في غَيْرِ حَقٍّ!

1. أهواؤهم: آراؤهم وما تميل إليه قلوبهم، والاهواء جمع هوى، بالقصر.
2. يُوهي: يُضعف ويُفَتِّت.
3. الصمّ: جمع أصم، وهو من الحجارة الصّلْبُ المُصْمَت، والصِلاب: جمع صليب، والصليب: الشديد، وبابه ظريف وظراف، وضعيف وضِعاف.
4. كَيْت وكَيْت: كلمتان لا تستعملان إلاّ مكررتين:إما مع واوالعطف وإما بدونها، وهي كناية عن الحديث.
5. حِيدي حَيادِ: كلمة يقولها الهارب عند الفرار، وهي من الحَيَدَان: الميل والانحراف عن الشيء، وحيادِ ـ مبني على الكسر ـ كما في قولهم فِيحي فَيَاحِ، وهي من أسماء الافعال كَنَزَالِ.
6. أعاليل بأضاليل: جمع أُعْلُولة كما أن الأضاليل جمع أُضلولة، والأضاليل متعلقة بالأعاليل، أي: أنكم تتعللون بالأباطيل التي لا جدوى لها.
7. يريد بالتطويل هنا تطويل الموعد والمَطْل فيه.
8. المَطولُ: الكثير المطل، وهو تأخير أداء الدّيْن بلا عُذر.
9. السهم الاخْيَبُ: هو من سهام المَيْسِرِ الذي لا حظّ له.
10. الافْوَقُ من السهام: مكسور الفوق، والفوق موضع الوتر من السهم.
11. الناصل: العاري عن النصل، ولا يخفى طيش السهم الذي لا فوق له ولا نصل.

[ 28 ] ومن خطبة له عليه السلام وهو فصل من الخطبة التي أولها: «الحمد لله غير مقنوط من رحمته» وفيه أحد عشر تنبيهاً:

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ، وَآذَنَتْ (1) بِوَدَاعٍ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلاَعٍ (2) ، أَلاَ وَإِنَّ الْيَوْمَ المِضْمارَ (3) ، وَغَداً السِّبَاقَ، وَالسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ (4) ، وَالْغَايَةُ النَّارُ; أَفَلاَ تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ (5) ! أَلاَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ (6) ! أَلاَ وَإِنَّكُمْ في أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ، فَمَنْ عَمِلَ في أَيَّامِ أَمَلهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ، وَلَمْ يَضْرُرْهُ أَجَلُهُ; وَمَنْ قَصَّرَ في أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَقَدْ خَسِرَ عَمَلَهُ، وَضَرَّهُ أَجَلُهُ، أَلاَ فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ (7) ، أَلاَ وَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلاَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، أَلاَ وَإنَّهُ مَنْ لاَيَنْفَعُهُ الْحَقُّ يَضُرُّهُ البَاطِلُ، وَمَنْ لايَسْتَقِيمُ بِهِ الْهُدَى يَجُرُّ بِهِ الضَّلاَلُ إِلَى الرَّدَىْ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ قَد أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ (8) ، وَدُلِلْتُمْ عَلى الزَّادَ. وَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخافُ عَلَيْكُمُ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الْأَمَلِ، تَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ (9) غَداً. قال السيد الشريف -رضي الله عنه- وأقول: إنّهُ لو كان كلامٌ يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا، ويضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام، وكفى به قاطعاً لعلائق الآمال، وقادحاً زناد الاتعاظ والازدجار. ومِن أعجبه قوله عليه السلام: «ألا وَإنّ اليَوْمَ المِضْمارَ وَغَداً السِّبَاقَ، وَالسّبَقَةُ الجَنّة وَالغَايَة النّار» فإن فيه ـ مع فخامة اللفظ، وعظم قدر المعنى، وصادق التمثيل، وواقع التشبيه ـ سرّاً عجيباً، ومعنى لطيفاً، وهو قوله عليه السلام: «والسَبَقَة الجَنّة، وَالغَايَة النّار»، فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين، ولم يقل: «السّبَقَة النّار» كما قال: «السّبَقَة الجَنّة»، لان الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوبٍ، وغرض مطلوبٍ، وهذه صفة الجنة، وليس هذا المعنى موجوداً في النار، نعوذ بالله منها! فلم يجز أن يقول: «والسّبَقَة النّار»، بل قال: «والغَايَة النّار»، لان الغاية قد ينتهي إليها من لا يسره الانتهاء إليها ومن يسره ذلك، فصَلح أن يعبر بها عن الأمرين معاً، فهي في هذا الموضع كالمصير والمآل، قال الله تعالي:( قُلْ تَمتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكُم إلى النّارِ) ، ولا يجوز في هذا الموضع أن يقال: سبْقتكم _ بسكون الباء _ إلى النار، فتأمل ذلك، فباطنه عجيب، وغوره بعيد لطيف. وكذلك أكثر كلامه عليه السلام. و في بعض النسخ: وقد جاء في رواية أخرى: «والسُّبْقة الجنة» _ بضم السين _ والسبّقة عندهم اسم لما يجعل للسابق إذا سبق من مال أوعَرَض، والمعنيان متقاربان، لأن ذلك لا يكون جزاءً على فعل الأمر المذموم، وإنما يكون جزاءً على فعل الامر المحمود.

1. آذَنَتْ: أعْلَمَتْ.
2. أشَرَفَتْ باطّلاع: أقبلت علينا بغتةً.
3. المِضْمار: الموضع والزمن الذي تضمّر فيه الخيل، وتضمير الخيل أن تربط ويكثر علفها وماؤها حتى تسمن، ثم يُقلل علفها وماؤها وتجري في الميدان حتى تهزل، ثم تُرَدّ إلى القوت، والمدة أربعون يوماً، وقد يطلق التضمير على العمل الاول أوالثاني، وإطلاقه على الاول لانه مقدمة للثاني وإلاّ فحقيقة التضمير: إحداث الضمور وهو الهزال وخفة اللحم، وإنما يفعل ذلك بالخيل لتخف في الجري يوم السباق.
4. السَّبَقَة ـ بالتحريك ـ : الغاية التي يجب على السابق أن يصل إليها.
5. المنيّة: الموت والاجل.
6. البُؤس ـ بالضم ـ : اشتداد الحاجة، وسوء الحالة.
7. الرهبة ـ بالفتح ـ : هي مصدر رَهِبَ الرجل ـ من باب عَلمَ ـ رهباً بالفتح وبالتحريك وبالضم، ومعناه خاف.
8. الظعن ـ بالسكون والتحريك ـ : الرحيل عن الدنيا وفعْله كَقَطَعَ.
9. تحرزون انفسكم : تحفظونها من الهلاك الابدي.

[ 27 ] ومن خطبة له عليه السلام وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزوالانبار بجيش معاوية فلم ينهضوا، وفيها يذكر فضل الجهاد، ويستنهض الناس، ويذكر علمه بالحرب، ويلقي عليهم التبعة لعدم طاعته

فضل الجهاد

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِباسُ التَّقْوَى، وَدِرْعُ اللهِ الحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ (1) الوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ (2) أَلبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ البَلاَءُ، وَدُيِّثَ (3) بِالصَّغَارِ وَالقَمَاءَةِ (4) ، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْأََسْهَابِ (5) ، وَأُدِيلَ الحَقُّ مِنْهُ (6) بِتَضْيِيعِ الجِهَادِ، وَسِيمَ الخَسْفَ (7) ، وَمُنِعَ النَّصَفَ (8) .
استنهاض الناس
أَلاَ وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هؤُلاَءِ القَوْمِ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَسِرّاً وَإِعْلاَناً، وَقُلْتُ لَكُمُ: اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَاللهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ في عُقْرِ دَارِهِمْ (9) إِلاَّ ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ (10) وَتَخَاذَلتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الغَارَاتُ (11) ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأُوْطَانُ. وَهذَا أَخُو غَامِد قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ (12) ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ البَكْرِيَّ، وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا (13) . وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالْأُخْرَى المُعَاهَدَةِ (14) ، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا (15) وَقُلْبَهَا (16) وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا (17) ، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالْإِسْتِرْجَاعِ وَالْإِسْتِرْحَامِ (18) ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ (19) ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ (20) ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً. فَيَا عَجَباً! عَجَباًـ وَاللهِ ـ يُمِيتُ القَلْبَ وَيَجْلِبُ الهَمَّ مِن اجْتَِماعِ هؤُلاَءِ القَوْمِ عَلَى بَاطِلِهمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ! فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً (21) ، حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً (22) يُرمَى: يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلاَ تُغِيرُونَ، وَتُغْزَوْنَ وَلاَ تَغْرُونَ، وَيُعْصَى اللهُ وَتَرْضَوْن! فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِم فِي أَيَّامِ الحَرِّ قُلْتُمْ: هذِهِ حَمَارَّةُ القَيْظِ (23) أَمْهِلْنَا يُسَبَّخُ عَنَّا الحَرُّ (24) ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ: هذِهِ صَبَارَّةُ القُرِّ (25) ، أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا البَرْدُ، كُلُّ هذا فِرَاراً مِنَ الحَرِّ وَالقُرِّ; فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الحَرِّ وَالقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَاللهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ!
البرم بالناس
يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلاَ رِجَالَ! حُلُومُ الْأَطْفَالِ، وَعُقُولُ رَبّاتِ الحِجَالِ (26) ، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكمْ مَعْرِفَةً ـ وَاللهِ ـ جَرَّتْ نَدَماً، وَأَعقَبَتْ سَدَماً (27) . قَاتَلَكُمُ اللهُ! لَقَدْ مَلاَْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً (28) ، وَشَحَنْتُمْ (29) صَدْرِي غَيْظاً، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ (30) التَّهْمَامِ (31) أَنْفَاساً (32) ، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالعِصْيَانِ وَالخذْلاَن، حَتَّى قَالَتْ قُريْشٌ: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِب رَجُلٌ شُجَاعٌ، وَلْكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالحَرْبِ. للهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً (33) ، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ العِشْرِينَ، وها أناذا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ! (34) وَلكِنْ لا رَأْيَ لَمِنْ لاَ يُطَاعُ!

1. جُنّتهُ ـ بالضم ـ : وقايته، والجُنّة: كل ما استترت به.
2. رغبةً عنه: زُهداً فيه.
3. دُيّثَ ـ مبني للمجهول من دَيّثَهُ ـ أي: ذلّلَهُ.
4. القَماءة: الصّغار والذل، والفعل منه قَمُؤَ من باب كَرُمَ.
5. الاسهاب: ذهاب العقل أوكثرة الكلام، أي حيل بينه وبين الخير بكثرة الكلام بلا فائدة.
وروي: (ضُرب على قلبه بالاسْداد) جمع سد أي الحجب.
6. أُدِيل الحقّ منه، أي: صارت الدولة للحق بَدَلهُ.
7. سيم الخسف أي: أُولي الخسف، وكلّفه، والخسف: الذّل والمشقّة أيضاً.
8. النَّصَف: العدل، ومُنع مجهول، أي حُرِمَ العدلَ: بأن يسلط الله عليه من يغلبه على أمره فيظلمه.
9. عُقْر الدار ـ بالضم ـ : وسطها وأصلها.
10. تواكلتم: وكَلَ كل منكم الامر إلى صاحبه، أي لم يتولّهُ أحد منكم، بل أحاله كلٌّ على الاخر.
11. شُنّت عليكم الغارات: مُزِّقَت عليكم من كل جانب كما يشن الماء متفرقاً دفعةً بعد دفعة.
12. الانبار: بلدة على شاطىء الفرات الشرقي، ويقابلها على الجانب الاخر «هِيت».
13. المسالِحُ: جمع مَسْلَحَة ـ بالفتح ـ : وهي الثغر والمَرْقب حيث يُخشى طروقُ الاعداء.
14. المعاهَدَة: الذميّة.
15. الحِجْل ـ بالكسر و بالفتح و بكسرين ـ : الخلخال.
16. القُلُب ـ بضمتين ـ : جمع قُلْب ـ بالضم فسكون ـ : السوار المُصْمَت.
17. الرعاث ـ جمع رَعثة ـ وهو: ضرب من الخرز.
18. الاسترجاع: ترديد الصوت بالبكاء مع القول: إنّا لله وإنا اليه راجعون،والاسترحام: أن تناشده الرحمة.
19. وافرين: تامين على كثرتهم لم ينقص عددهم، ويروى (موفورين).
20. الكَلْم ـ بالفتح ـ : الجرح.
21. تَرَحاً ـ بالتحريك ـ أي: همّاً وحُزْناً.
22. الغرض: ما ينصب ليرمى بالسهام ونحوها، فقد صاروا بمنزلة الهدف يرميهم الرامون.
23. حَمَارّة القيظ ـ بتشديد الراء وربما خففت في ضرورة الشعر ـ : شدة الحر.
24. التسبيخ ـ بالخاء المعجمة ـ : التخفيف والتسكين.
25. صَبَارّة الشتاء ـ بتشديد الراء ـ : شدة برده، والقُر ـ بالضم ـ : البرد، وقيل هو بردالشتاء خاصة.
26. حِجال: جمع حَجَلة وهي القبة، وموضع يزين بالستور، وربات الحجال: النساء.
27. السّدَم ـ محرّكة ـ : الهم مع أسف أوغيظ، وفعله كفرح.
28. القيح: ما في القرحة من الصديد، وفعله كباع.
29. شحنتم صدري: ملاتموه.
30. النُغب: جمع نُغْبَة كجرعة وجُرَع لفظاً ومعنى.
31. التّهْمَام ـ بالفتح ـ : الهم، وكل تَفْعال فهو بالفتح إلاّ التِبيان والتِلقاءفهما بالكسر.
32. أنفاساً: أي جرعةً بعد جرعة، والمراد أن أنفاسه أمست هماً يتجرّعه.
33. مِراساً: مصدر مارسه ممارسة ومراساً، أي عالجه وزاوله وعاناه.
34. ذَرّفْتُ على الستين: زدتُ عليها، وروى المبرد «نَيّفت»، وهو بمعناه.

[ 26 ] ومن خطبة له عليه السلام وفيها يصف العرب قبل البعثة ثم يصف حاله قبل البيعة له العرب قبل البعثه


إِنَّ اللهَ سُبحانَه بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّي اللّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ، وَفِي شَرِّ دَارٍ، مُنِيخُونَ (1) بَيْنَ حِجارَةٍ خُشْنٍ (2) ، وَحَيَّاتٍ صُمٍّ (3) ، تشْرَبُونَ الكَدِرَ، وَتَأْكُلُونَ الْجَشِبَ (4) ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، الْأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، وَالْآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ (5) . منها صفة قبل البيعة له فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلاَّ أَهْلُ بَيْتِي، فَضَنِنْتُ بِهمْ عَنِ المَوْتِ، وَأَغْضَيْتُ (6) عَلَى القَذَى، وَشَرِبْتُ عَلَى الشَّجَا (7) ، وَصَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ الْكَظَمِ (8) ، وَعَلىْ أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ الْعَلْقَمِ. ومنها: وَلَمْ يُبَايعْ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهِ عَلَى الْبَيْعَةِ ثَمَناً، فَلاَ ظَفِرَتْ يَدُ الْبَائِعِ، وخَزِيَتْ (9) أَمَانَةُ الْمُبْتَاعِ (10) ، فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا (11) ، وَأَعِدُّوا لَهَا عُدَّتَهَا، فَقَدْ شَبَّ لَظَاهَا (12) ، وَعَلاَ سَنَاهَا (13) ، وَاسْتَشْعِرُوا (14) الصَّبْرَ، فَإِنَّهُ أَدْعَي النَّصْرِ.

1. مُنِيخُون: مُقيمون.
2. الخُشْن: جمع خَشْنَاء من الخشونة.
3. وصف الحيّات «بالصّمّ» لانها أخبثها إذ لا تنزجر بالاصوات كأنها لا تسمع.
4. الجَشِب: الطعام الغليظ أوما يكون منه بغير أدم.
5. معصوبة:مشدودة.
6. أغْضَيْت: أصلها من غض الطّرف، والمراد سكتّ على مضض.
7. الشّجَا: ما يعترض في الحلق من عظم ونحوه.
8. الكظَم ـ بالتحريك أوبضم فسكون ـ : مخرج النفس، والمراد أنّه صبر على الاختناق.
9. خَزِيَتْ: ذلتْ وهانت.
10. المبتاع: المشتري.
11. أُهْبَتُها: عُدّتها.
12. شبّ لظاها: استعارة، وأصله صعود طرف النار الاعلى.
13. سَناها: ضوؤها.
14. استشعار الصبر: اتخاذه شعاراً كما يلازم الشعار الجسد.

[ 25 ] ومن خطبة له عليه السلام وقد تواترت عليه الأَخبار (1) باستيلاءِ أَصحاب معاوية على البلاد، وقدم عليه عاملاه على اليمن وهما عبيدالله بن العباس وسعيد بن نَمْرَان لمّا غلب عليها بُسْرُ بن أبي أَرْطَاة، فقام عليه السلام إلى المنبر ضجراً بتثاقل أَصحابه عن الجهاد، ومخالفتهم له في الرأْي، فقال:

مَا هِيَ إِلاَّ الكُوفَةُ، أقْبِضُهَا وَأَبْسُطُهَا (2) ، إنْ لَمْ تَكُوني إِلاَّ أَنْتِ، تَهُبُّ أَعَاصِيرُك (3) ، فَقَبَّحَكِ اللهُ!وتمثّل بقول الشاعر:
لَعَمْرُ أَبِيكَ الْخَيْرِ يَا عَمْرُو إِنَّني عَلَى وَضَر (4) مِنْ ذَا الْإِنَاءِ قَلِيلِ
ثم قال عليه السلام: أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ (5) ، وَإِنِّي وَاللهِ لَأَظُنُّ أَنَّ هؤُلاءِ القَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ (6) بِاجْتِماعِهمْ عَلَى بَاطِلِهمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، وَبِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ في الْحَقِّ، وَطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ في البَاطِلِ، وَبِأَدَائِهِمُ الْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَخِيَانَتِكُمْ، وَبِصَلاَحِهمْ في بِلاَدِهِمْ وَفَسَادِكُمْ، فَلَو ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ (7) لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلاَقَتِهِ (8) . اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّونِي، وَسَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي، فَأَبْدِلنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ، وأَبْدِلْهُمْ بِي شَرَّاً مِنِّى، اللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ (9) كَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، أَمَاوَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلفَ فَارِسٍ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ.
هُنَالِكَ، لَوْ دَعَوْتَ، أَتَاكَ مِنْهُمْ فَوَارِسُ مِثْلُ أَرْمِيَةِ الْحَمِيم ثم نزل عليه السلام من المنبر.
قال سيّد الشريف: أقولُ: والارمية جمع رَميٍّ وهو: السحاب، والحميم ها هنا: وقت الصيف، وإنما خصّ الشاعر سحاب الصيف بالذكر لأنه أشد جفولاً، وَأسرع خُفوفاً (10) ، لانه لا ماء فيه، وإنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء، وذلك لا يكون في الأكثر إلا زمان الشتاء، وإنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دُعوا، والإغاثة إذا استغيثوا، والدليل على ذلك قوله: «هنالك، لو دعوت، أتاك منهم...».

1. تواترت عليه الاخبار: ترَادَفَتْ وتواصَلَت.
2. أقْبضُها وأبْسُظُها: أي أتصرف فيها كما يتصرف صاحب الثوب في ثوبه يقبضه أويبسطه.
3. الاعاصير: جمع إعصار، وهي ريح تهب وتمتد من الارض نحو السماء كالعمود.
4. الوَضرُ ـ بالتحريك ـ : بقية الدّسم في الاِناء.
5. اطّلَعَ اليمنَ: غَشِيَها بجيشه وغزاها وأغار عليها.
6. سَيُدَالُونَ منكم: سيغلبونكم وتكون لهم الدولة بَدَلَكُمْ.
7. القَعْب ـ بفتح القاف ـ : القدح الضخم.
8. عِلاقة القَعْب ـ بكسر العين ـ : مايعلق منه من ليف أونحوه.
9. مِثْ قلوبهم: أَذِبْها، ماثه يميثه: أذابه.
10. خُفُوفاً: مصدر غريب لخَفّ بمعنى انتقل وارتحل مسرعاً، والمصدر المعروف «خفّاً».

[ 24 ] ومن خطبة له عليه السلام وهي كلمة جامعة له فيها تسويغ قتال المخالف، والدعوة إلى طاعة الله، والترقي فيها لضمان الفوز


وَلَعَمْرِي مَا عَلَيَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ الحَقَّ، وَخَابَطَ الغَيَّ (1) ، مِنْ إِدْهَانٍ (2) وَلاَ إِيهَانٍ (3) . فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَفِرُّوا إِلَى اللهِ مِنَ اللهِ (4) ، وَامْضُوا في الَّذِي نَهَجَهُ لَكُمْ (5) ، وَقُومُوا بِمَا عَصَبَهُ بِكُمْ (6) ، فَعَلِيٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِكُمْ (7) آجِلاً، إِنْ لَمْ تُمنَحُوهُ عَاجِلاً.

1. خابَطَ الغَيَّ: صارع الفساد، وأصل الخبْظ: السير في الطلام، وهذا التعبير أشد مبالغة من خَبَطَ في الغي، إذ جعله والغي متخابطَيْن يخبظ أحدهما في الاخر.
2. الادْهانُ: المنافَقَةُ والمصانَعَةُ، ولا تخلو من مخالفة الباطن للظاهر.
3. الايهان: مصدر أوْهَنْتُهُ، بمعنى أضعَفْته.
4. فِرّوا إلى الله من الله: اهربوا إلى رحمة الله من عذابه.
5. نَهَجَهُ لكم: أوْضَحَهُ وبَيّنَه.
6. عَصَبَهُ بكم ـ من باب ضرب ربطه بكم ـ أي: كلّفكم به، وألزمكم أداءه.
7. فَلْجكم: ظَفَركم وفَوْزكم.

[ 23 ] ومن خطبة له عليه السلام وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الاغنياء بالشفقة تهذيب الفقراء

أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ كَقَطَرَاتِ الْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِيرَةً (1) في أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً، فَإِنَّ المَرْءَ الْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بهَا لِئَامُ النَّاسِ، كانَ كَالْفَالِجِ (2) اليَاسِرِ (3) الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ، وَيُرْفَعُ بَهَا عَنْهُ المَغْرَمُ. وَكَذْلِكَ الْمَرْءُ المُسْلِمُ البَرِيءُ مِنَ الْخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا دَاعِيَ اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ فَإِذَا هُوَ ذُوأَهْلٍ وَمَالٍ، وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُهُ. إِنَّ المَالَ وَالْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، وَالعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الاْخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللهُ لاَِقْوَام، فَاحْذَرُوا مِنَ اللهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتُ بَتَعْذِير (4) ، وَاعْمَلُوا في غَيْرِ رِيَاء وَلاَ سُمْعَة; فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ يَكِلْهُ اللهُ (5) إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ. نَسْأَلُ اللهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الاَْنْبِيَاءِ.
 تأديب الاغنياء
أَيُّهَا النّاسُ، إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ ـ وَإِنْ كَانَ ذَا مَال ـ عَنْ عَشِيرَتِهِ، وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلسِنَتِهمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً (6) مِنْ وَرَائِهِ وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ (7) ، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَة إنْ نَزَلَتْ بِهِ. وَلِسَانُ الصِّدْقِ (8) يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ في النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ المَالِ: يُورِثُهُ غيرَهُ. و منها : أَلاَ لاَيَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ القَرَابِةِ يَرَى بِهَا الخَصَاصَةَ (9) أنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لايَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَلاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ (10) ، وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ، فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْد كَثِيرَةٌ; وَمَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ المَوَدَّةَ. قال السيد الشريف : أقول: الغفيرة ها هنا الزيادة والكثرة من قولهم للجمع الكثير : الجم الغفير. و يروي « عِفْوة من أهل أو مال » والعِفْوة: الخيار من الشيء يقال: أكلت عِفْوةَ الطعام أي خياره. وما أحسن المعنى الذي أراده عليه السلام بقوله: «ومن يقبض يده عن عشيرته...» إلى تمام الكلام، فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة; فإذا احتاج إلى نصرتهم، واضطر إلى مرافدتهم (11) ، قعدوا عن نصره، وتثاقلوا عن صوته، فمنع ترافد الأيدي الكثيرة، وتناهض الأقدام الجمة.

1. غفيرة: زيادة وكثرة.
2. الفالج: الظافر، فَلَجَ يَفْلُجُ ـ كنصر ينصر ـ : ظفر وفاز، ومنه المثل: «من يأتِ الحكم وحده يَفْلُجُ».
3. الياسر: الذي يلعب بقِداح المسير أي: المقامر، وفي الكلام تقديم وتأخير، ونَسَقُهُ: كالياسر الفالج، كقوله تعالى: (وغرابيب سُود)، وحَسّنَهُ أن اللفظتين صفتان، وإن كانت إحداهما إنّما تأتي بعد الاخرى إذا صاحبتها.
4. التعذير ـ مصدر عذّرَ تَعْذيراً ـ : لم يثبُتْ له عُذْر.
5. يَكِلُه الله: يتركه، من وَكَلَ يَكِلُ: مثل وزن يزن.
6. حَيْطة ـ كبيعة ـ : رعاية وكلاءة.
7. الشَعَث ـ بالتحريك ـ : التفرق والانتشار.
8. لسان الصدق: حُسْنُ الذكر بالحق.
9. الخَصَاصة: الفقروالحاجة الشديدة، وهي مصدر خَصّ الرجل ـ من باب عَلِمَ ـ خَصَاصاً وخَصَاصة، وخصاصاء ـ بفتح الخاء في الجميع ـ إذا احتاج وافتقر، قال تعالى: (ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصةٌ)
10. أهلك المالَ: بِذَلَهُ.
11. المُرافَدَةُ: المُعاوَنَة

[ 22 ] ومن خطبة له عليه السلام حين بلغه خبر الناكثين ببيعته و فيها يذم عملهم و يلزمهم دم عثمان و يتهددهم بالحرب ذم الناكثين


أَلاَ وإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَّرَ حِزْبَهُ (1) ، وَاسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ (2) ، لِيَعُودَ الْجَوْرُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَيَرْجِعَ الْبِاطِلُ إِلَى نِصَابِهِ (3) ، وَاللهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نَصِفاً (4) .
يذم عثمان
وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَكُوهُ، فَلَئِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ، وَلَئِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُوني، فَمَا التَّبِعَةُ إِلاَّ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ، يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ (5) ، وَيُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ. يا خَيْبَةَ الدَّاعِي! مَنْ دَعَا! وَإِلاَمَ أُجِيبَ! وَإِنِّي لَرَاض بِحُجَّةِ اللهِ عَلَيْهِمْ وَعِلْمِهِ فِيهمْ.
التهديد بالحرب
فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ السَّيْفِ، وَكَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ البَاطِلِ، وَنَاصَراً لِلْحَقِّ! وَمِنَ العَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ! وَأَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلادِ! هَبِلَتْهُمُ (6) الْهَبُولُ (7) ! لَقَدْ كُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ، وَلاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ! وَإِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّي، وَغَيْرِ شُبْهَة مِنْ دِيني.

1. ذَمّرَ حِزْبَهُ: حثهم وحضّهم، وهو بالتشديد أدلّ على التكثير، ويروى مخففاً أيضاً من باب ضرب ونصر.
2. الجَلَب ـ بالتحريك ـ : ما يُجلب من بلد إلى بلد، وهو فعلٌ بمعنى مفعول مثل سَلَب بمعنى مسلوب، والمراد هنا بقوله و«استجلب جَلَبَه» جمع جماعته، كقوله «ذَمّرَ حزبه».
3. النِّصَاب ـ بكسر النون ـ : الاصل أوالمنبت وأول كل شيء.
4. النّصِف ـ بالكسر ـ : المنصف، أي: لم يحكّموا رجلاً عادلاً بيني وبينهم.
5. أُمّاً قد فَطَمَتْ: أي تَركت إرضاع ولدها بعد أن ذهب لبنها، يشبّه به طلَب الامر بعد فواته.
6. هَبِلَتْهُمْ: ثَكِلَتْهُمْ.
7. الهَبُول ـ بفتح الهاء ـ : المرأة التي لا يبقى لها ولد، وهو دعاء عليهم بالموت.

[ 21 ] ومن خطبة له عليه السلام وهي كلمة جامعة للعظة والحكمة

فإِنَّ الغَايَةَ أَمَامَكُمْ، وَإِنَّ وَرَاءَكُمُ السَّاعَةَ (1) تَحْدُوكُمْ، (2) تَخَفَّفُوا (3) تَلْحَقوا، فَإنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ. قال السيد الشريف : أقول: إنّ هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وآله بكل كلام لمال به راجحاً، وبرّز عليه سابقاً. فأما قوله عليه السلام: «تخففوا تلحقوا»، فما سمع كلام أقل منه مسموعاً ولا أكثر منه محصولاً، وما أبعد غورها من كلمة! وأنقع (4) نطفتها (5) من حكمة! وقد نبهنا في كتاب «الخصائص» على عظم قدرها وشرف جوهرها.

1. الساعة: يوم القيامة.
2. تحدوكم: تَسُوقكم إلى ما تسيرون عليه.
3. تَخَفّفَوا: المراد هنا التخففُ من أوزار الشهوات.
4. أنْقَع: من قولهم: «الماء ناقع ونقيع» أي ناجع، أي إطفاء العطش.
5. النُّطْفة: الماء الصافي.