نهج البلاغة
وهو مجموعة خطب مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وأوامره وكتبه ورسائله وحكمه ومواعظه تأليف: الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام
إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتابُ اللهِ، وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً، عَلَى غَيْرِ دِينِ اللهِ، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ (1) ، وَلَوْ أَنَّ الْحقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ; وَلكِن يُؤْخَذُ مِنْ هذَا ضِغْثٌ (2) ، وَمِنْ هذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ! فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو( الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى).
1. المُرْتادِين: الطالبين للحقيقة.
2. الضِغْث ـ بالكسر ـ : قبضة من حشيش مختلط فيها الرطب باليابس.
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي بَطَنَ (1) خَفِيَّاتِ الْأُمُورِ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلاَمُ (2) الظُّهُورِ، وَامْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ; فَلاَ عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ، وَلاَ قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ، سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلاَ شَيءَ أَعْلَى مِنْهُ، وَقَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلاَ شَيْءَ أَقْرَبُ مِنْهُ، فَلاَ اسْتِعْلاَؤُهُ بِاعَدَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلاَ قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ في الْمَكَانِ بِهِ، لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ، ولَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفِتِهِ، فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلاَمُ الْوُجُودِ، عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقولُهُ الْمُشَبِّهُونَ بِهِ وَالْجَاحِدُونَ لَهُ عُلوّاً كَبِيراً!
1. بَطَنَ الخفيّات: علِمَها من باطنها.
2. الاعْلام: جمع عَلَم ـ بالتحريك ـ وهو المنار يهتدى به، ثم عمّ في كل ما دل على شيء، وأعلام الظهور: الادلة الظاهرة.
الْحَمْدُ للهِ كُلَّمَا وَقَبَ (1) لَيْلٌ وَغَسَقَ (2) ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ كُلَّمَا لاَحَ نَجْمٌ وَخَفَقَ (3) ، والْحَمْدُ لِلّهِ غَيْرَ مَفْقُودِ الْإِنْعَام، وَلاَ مُكَافَإِ الْإِفْضَالِ. أَمّا بَعْدُ، فَقَدْ بَعَثْتُ مُقَدِّمَتِي (4) ، وَأَمَرْتُهُمْ بِلُزُومِ هذَا المِلْطَاطِ (5) ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرِي، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَقْطَعَ هذِهِ الْنُّطْفَةَ إِلَى شِرْذِمَةٍ (6) مِنْكُمْ، مُوَطِّنِينَ أَكْنَافَ (7) دَجْلَةَ، فَأُنْهِضَهُمْ مَعَكُمْ إِلَى عَدُوِّكُمْ، وَأَجْعَلَهُمْ مِنْ أَمْدَادِ (8) الْقُوَّةِ لَكُمْ. قال السيد الشريف: اقول: يعني _ عليه السلام _ بالملطاط ها هنا: السّمْتَ الذي أمرهم بلزومه، وهو شاطىء الفرات، ويقال ذلك أيضاً لشاطىء البحر، وأصله ما استوى من الأرض. ويعني بالنطفة: ماء الفرات، وهو من غريب العبارات وعجيبها
1. وَقَبَ: دخلَ.
2. غَسَقَ: اشتدت ظلمته.
3. خَفَقَ النجم: غاب.
4. المُقَدِّمة ـ بكسر الدال ـ : صدر الجيش، ومقدّمة الانسان ـ بفتح الدال ـ : صدره.
5. المِلْطاط: حافة الوادي وشفيرُهُ وساحل البحر.
6. الشرذمة: النفر القليلون.
7. الاكناف: الجوانب، و«موطّنين الاكْنَافَ» أي: جعلوها وطَناً.
8. الامْداد: جمع مَدَد، وهو ما يُمَدّ به الجيش لتقويته.
كَأَنَّي بِكِ يَاكُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ الْأَدَيمِ (1) الْعُكَاظِيِّ (2) ، تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ (3) ، وَتُرْكَبِينَ بِالزَّلاَزِلِ، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَاأَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلاَّ ابْتَلاَهُ اللهُ بِشَاغِلٍٍ، وَرَمَاهُ بِقَاتِلٍ!
1. الاديم: الجلد المدبوغ.
2. العُكاظِيّ: نسبة إلى عُكاظ ـ كغراب ـ وهي سوق كانت تقيمها العرب في صحراء بين «نخلة» و«الطائف» يجتمعون إليه ليتعا كظوا، أي يتفاخروا.
3. النّوَازِل: الشدائد.
اللَّهُمَّ إِنَّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ (1) ، وَكَآبَةِ المُنْقَلَبِ (2) ، وَسُوءِ المَنظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالمَالِ والْوَلَدِ. اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَأَنْتَ الْخلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، وَلاَ يَجْمَعُهُما غَيْرُكَ، لاَِنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لاَ يَكُونُ مُسْتَصْحَباً، وَالمُسْتَصْحَبُ لاَ يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً. قال السيد الشريف: رضي اللّه عنه: وابتداء هذا الكلام مرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد قفّاه أمير المؤمنين عليه السلام بأبلغ كلام وتمّمه بأحسن تمام; من قوله: «ولا يجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ» إلى آخر الفصل.
1. الوَعْثَاء: المشقة، وأصله المكان المُتْعِب لكثرة رمله وغوص الارجل فيه.
2. المُنْقَلَب: مصدر بمعنى الرجوع.
حمد الله الْحَمْدُ للهِ غَيْرَ مَقْنُوطٍ (1) مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلاَ مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ، وَلاَ مَأْيُوسٍ مِنْ مَغْفِرَتِهِ، وَلاَ مُسْتَنْكَفٍ (2) عَنْ عِبَادَتِهِ، الَّذِي لاَ تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ، وَلاَ تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ.
ذم الدنيا وَالدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ (3) ، وَلاَِهْلِهَا مِنْهَا الْجَلاَءُ (4) ، وَهِيَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، قَدْ عُجِّلَتْ لِلطَّالِبِ، وَالْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النَّاظِرِ (5) ; فَارْتَحِلُوا مِنْهَا بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ، وَلاَ تَسْأَلُوا فِيها فَوْقَ الْكَفَافِ (6) ، وَلاَ تَطْلُبُوا مِنْهَا أكْثَرَ مِنَ الْبَلاَغِ (7) .
1. مَقْنُوط: ميؤوس، من القنوط وهو اليأس.
2. مُسْتَنْكف; الاستنكاف: الاستكبار.
3. مُنيَ لها الفَنَاءُ ـ ببناء الفعل للمجهول ـ أي: قُدّرَلها.
4. الجلاء: الخروج من الاوطان.
5. التَبَسَتْ بِقَلْبِ الناظِرِ: اختلطت به محبةً.
6. الكَفاف: ما يَكُفّكَ أي يمنعك عن سؤال غيرك، وهو مقدار القوت.
7. البلاغ: ما يتبلّغ به، أي: يقتات به مدّة الحياة.
قَبَّحَ اللهُ (2) مَصْقَلَةَ! فَعَلَ فِعْلَ السَّادَةِ، وَفَرَّ فِرَارَ الْعَبِيدِ! فَمَا أَنْطَقَ مَادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ، وَلاَ صَدَّقَ وَاصِفَهُ حَتَّى بَكَّتَهُ (3) ، وَلَو أَقَامَ لَأَخَذْنَا مَيْسُورَهُ (4) ، وَانْتَظَرْنا بِمَالِهِ وُفُورَهُ (5)
1. خاسَ به: خان وغدر.
2. قَبّحَهُ الله: أي نحّاه عن الخير.
3. بكّته: قَرّعَهُ وَعَنّفَهُ.
4. مَيْسُورُه: ما تَيَسَّرَ له.
5. الوُفور: مصدر وَفَرَ المالُ، أي تم.
إِنَّ اسْتَعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَجِرِيرٌ عِنْدَهُمْ، إِغْلاَقٌ لِلشَّامِ، وَصَرْفٌ لِأَهْلِهِ عَنْ خَيْرٍ إِنْ أَرادُوهُ، وَلكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِيرٍ وَقْتاً لاَ يُقِيمُ بَعْدَهُ إِلاَّ مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً، وَالرَّأْيُ عِنْدِي مَعَ الْأَنَاةِ (1) ، فَأَرْوِدُوا (2) ، وَلاَ أَكْرَهُ لَكُمُ الْإِعْدَادَ (3) . وَلَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هذَا الْأَمْرِ وَعَيْنَهُ (4) ، وَقَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَبَطنَهُ، فَلَمْ أَرَ لِي فِيهِ إِلاَّ الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ. بِمَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّي اللّهُ عَلَيْهِ. إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى الْأُمَّةِ وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثاً، وَأَوْجَدَ النَّاسَ مَقَالا ً (5) ، فَقَالُوا، ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّروا.
1. الاناة: التثَبّتُ والتأني.
2. أرْوِدُوا: ارفقُوا، أصله من أرْوَدَ في السير إرواداً، إذا سار برفق.
3. الإعْداد: التهيئة.
4. وَلَقَدْ ضرَبْتُ أنْفَ هذا الامْرِ وعَيْنَهُ: مَثَلٌ تقوله العرب في الاستقصاء في البحث والتأمل والفكر.
5. أوْجَدَ الناسَ مَقالاً: جعلهم واجدين له.
أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الْأَمَلِ (1) ; فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ. أَلاَ وَإنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ (2) ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ (3) كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ اصْطَبَّهَا صَابُّهَا (4) ، أَلاَ وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأَبِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ، وَغَداً حِسَابٌ وَلاَ عَمَلَ. قال الشريف: أقول: الحذاء, السريعة, و من الناس من يرويه ( جذّاء ) (5) .
1. طُولُ الامَلِ: هو استفساح الاجل، والتسويف بالعمل.
2. الحَذّاء ـ بالتشديد ـ : الماضية السريعة.
3. الصبابة ـ بالضم ـ : البقيّة من الماء واللبن في الاناء.
4. اصطبّها صابّها: كقولك: أبقاها مبقيها، أوتركها تاركها.
5. جذّاء – بالجيم – أي: مقطوع خيرها و درَّها.
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ (1) ، وَلاَ أَعْلَمُ جُنَّةً (2) أوْقَى (3) مِنْهُ، وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ، وَلَقَدْ أَصْبَحْنا في زَمَانٍ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً (4) ، وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلى حُسْنِ الْحِيلَةِ. مَا لَهُمْ! قَاتَلَهُمُ اللهُ! قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ (5) وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ (6)
1. التَّوْأمُ: الذي يولد مع الاخر في حمل واحد.
2. الجُنَّة ـ بالضم ـ : الوقاية، وأصلها ما استترت به من درع ونحوه.
3. أوقى منه: أشدّ وقاية وحفظاً.
4. الكَيْس ـ بالفتح ـ : الفطنة والذكاء.
5. الحُوّلُ القُلَّب ـ بضم الاول وتشديد الثاني من اللفظين ـ : هو البصير بتحويل الامور وتقليبها.
6. الحَرِيجَة: التحرج والتحرز من الاثام.